السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عمرك هو رأس مالك
إن رأس مال العبد في حياته هو عمره، كُلِّف بإعماله في فترة وجوده في الحياة الدنيا، وهي له كالسوق؛ فإن أعمله في خير وطاعة ربح، وإن أعمله في شر ومعصية خسر، وكل يوم يتفلت منا من غير طاعة ربنا - عز وجل -، فهو خسار، كمن يقتطع كل يوم جزءًا من رأس ماله ويلقي به في الماء. وفي الحديث: «ليس من عمل يوم إلا يختم عليه». [صحيح الجامع].
وعن الحسن البصري - رحمه الله - قال: ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم، يقول: يا أيها الناس، إني يوم جديد، وإني على ما يُعمل فيَّ شهيد، وإني لو غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة.
فعمرك وسنواتك رأس مالك، وأنت في تجارة، يقول الله - تعالى -: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [الصف: 10، 11].
ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «...كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها».[صحيح مسلم].
فكلٌ يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها لله - تعالى - بطاعته فيعتقها من العذاب:
((إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ))[التوبة: 111].
ومنهم من يبيعها بخسًا للشيطان والهوى باتباعهما، فيوبق نفسه (يهلكها):
((وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ))[إبراهيم: 22].
ويقول - تعالى -: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَى عِلْمٍ ))[الجاثية: 23]. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يعظ رجلاً، فيقول له: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك». [شرح السنة للبغوي].
ولأهمية العمر كان قسيم الرسالة والنذارة، قال الله - تعالى -: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) [فاطر: 37].
فالإنسان يضيع عمره وهو لا يدري مقدار خسارته وغبنه الذي يحصده، ويبين خطر هذا:
أن المرء إذا كان في آخر عمره، وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة، وأراد زيادة يوم فيها يتزود فيه للقاء ربه أو حتى ساعة وجيزة يتوب فيها قبل الغرغرة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يقول الله - تعالى -: ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَاجَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )) ، فيشعر بالحزن والأسى على الأيام والليالي والشهور والسنوات التي كانت بين يديه وأضاعها من غير كسب ولا فائدة.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة، والفراغ». [صحيح البخاري].
أي يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتمل، فيفوتان عليه بدون عوض، فيندم، ولات حين مندم.
((وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ))[العصر: 1، 2]:
يقسم الله - تعالى -بالعصر (وهو على تفسيرات مختلفة، فقيل هو الدهر، ولعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: والعصر، نوائب الدهر، وقيل هو اليوم والليلة، أو العشي، وقيل هو الصلاة الوسطى لأهميتها، وقيل بل هو عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل بل هو عمر الإنسان).
وأيًا كان المعنى، فهو يدور في فلك الزمن قلَّ أو كثر، إن الإنسان لفي خسر.
والخسار مراتب:
فقد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم واستحق الجحيم، وقد يكون خسارًا من بعض الوجوه دون بعض ولهذا عمم الله - تعالى- الخسار لكل إنسان إلا من اتصف بأربع صفات:
1- الإيمان، ولا يكون بدون العلم، فهو فرع منه.
2- العمل الصالح، وهو شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحقوق الله وحقوق عباده الواجبة والمستحبة.
3- التواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح، فيوصي بعضهم بعضًا بذلك ويحثه
عليه.
4- التواصي بالصبر: بأنواعه الثلاثة: على طاعة الله - تعالى -، وعن معصية الله تعالى، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمرين الأولين يكمل العبد نفسه، وبالأمرين الآخرين يكمل غيره، وبتكميل الأربعة، يكون العبد قد سلم من الخسارة وفاز بالربح العظيم. [تفسير السعدي بتصرف].
فالله أرسل رسوله بالهدى، وهدى كل إنسان النجدين:
(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). فمن آمن وعمل صالحًا كان مآله إلى الجنة، ومن كفر كان مآله إلى النار.
وفي عموم المسلمين، فإن الخسران في التفريط، بحيث لو دخل الجنة، ولم ينل أعلى الدرجات يحس بالخسران، في الوقت الذي فرَّط فيه، ولم ينافس في فعل الخيرات لينال أعلى الدرجات، لذا قالوا: لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزينًا، فإن كان مسيئًا فعلى إساءته، وإن كان محسنًا فعلى تقصيره.
وفي قول ربنا - تعالى -:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). «ألا تخافوا»: الخوف من المستقبل أمامهم، «ولا تحزنوا»: والحزن على الماضي خلفهم.
اللهم تب علينا يارب العالمين